Wednesday, March 19, 2014

وطن آخر

بين الوطن والغربة والهرب من وقائع كان بإمكانها إنهاء حياتهم، كانت هذه الفكرة التي كتب بها ميلان كونديرا الكاتب التشيكي روايته الجهل الذي يجسد في شخصياته القلق الذي داهمهم لمدة عشرين عاما خلال إغترابهم لا يكادون يهنأون بليلة واحدة تخلو من كوابيس وهواجيس وطنهم التشيك الذي أدى زعزعة الأوضاع السياسية لفرار بعض من شعبه نحو حضن أخر للإختباء واختيار العاصمة الفرنسية باريس كوطن آخر.
كانت بطلة رواية كونديرا إيرينا التي فقدت زوجها في مقتبل عمره وتركها وحيدة لتواجه صعوبة الغربة في باريس مع ابنتيها اللتان وصلتا لمرحلة الاعتماد على نفسيهما والاستعداد للعيش بعيدا عن أمهما. فاعتبرت خائنة لوطنها بالهرب منه بسبب النظام الشيوعي التي لم تتبعه أو بالأحرى لم يتبعه زوجها، كان يراود إرينا كابوس تراه كل ليلة لمدة سبعة عشر عاما من فرارها من براغ المدينة الأم التشيكية لإرينا، كانت ترى في حلمها أنها في طائرة بدلت خطها وحطت في مطار مجهول، رجال بلباس موحد مسلحين ينتظرونها في نهاية الممر، بجبين يتصبب عرقا باردا، عرفت فيهم الشرطة التشيكية. في مناسبة أخرى وبينما هي تتنزه في مدينة فرنسية صغيرة رأت مجموعة غريبة من النسوة، كل واحدة منهن تحمل في يدها ابريق بيرتها، يجرين نحوها يستجوبنها بالتشيكية، يضحكن بحميمية سيئة النية، تنتبه إرينا مذعورة، الى انها في براغ، فتصرخ وتستيقظ .
في أطراف الوطن الثاني لإيرينا أحبت رجل سويدي (غوستاف) كان صديق زوجها المتوفي كانت ترى فيه بقايا ذكريات وطنها الأول حيث لم تجد تلك الذكريات مع ابنتيها اللتان لم تعرفان وطن سوى فرنسا، حتى أمها التي جاءت لزيارة ابنتها إيرينا لم تحمل لإيرينا أي حنين للوطن حيث أنها لم تحب تواجد أمها في منزلها لأنها تعلم أن أمها لم تأت سوى لتبين لإيرينا أنها قادرة أكثر منها، والحياة في أعينها مليئة بالألوان على عكس حياة إيرينا التي امتلأت حياتها بالحزن الذي لم يعرف له مكان سوى في قلب إيرينا الزوجة المرملة الهاربة.
ولكن بعد طيلة هذه السنين استطاعت إيرينا أن تطوى صفحة الوطن (التشيك) الذي لم تعد تعترف بأنه وطنها وأن فرنسا هي وطنها الآن، استطاعت  أن تتغلب على  كل تلك الكوابيس، وأقنعت نفسها بأنها ليست خائنة للوطن بل هي أرغمت على الزواج من مارتن في عمر المراهقة وهو من أجبرها على الفرار لأنه لم يكن في أمان في براغ لتجد نفسها وحيدة في أراضي باريس بعد أن توفى حين وصولهما ولم تعد قادرة على العودة.
وبعد امضائها عشرين عاما في باريس انهار النظام السوفيتي والأنظمة الموالية له في أوربا الشرقية ومنها نظام الحكم في براغ، ومع هذا الانهيار خرج المهاجرون من المسرح السياسي الاوربي، فلم يعد أعتبار هذا المهاجر بالخائن او المعذب الكبير، لقد اخرج المهاجر من مسرح التاريخ الاوربي، وعادت إيرينا لذلك الوطن الذي كادت أن تنساه، عادت من دون ابنتاها لتختبر مشاعر الحنين اللتي زاولتها مدة عشرين عاما وكادت أن تتلاشى لتجد أن الجهل لذلك الوطن كان مستحيلا.

يسرا عمر


No comments:

Post a Comment