الصرختان
منذ أيّامٍ معدودة، كنت في زيارة لوالد خطيبي بعد أن دخل إلى العناية المركزة إثر إصابته بوعكة صحية نالت من رئتيه وقلبيه نصيبا. كنت قد استعددت لهذه الزيارة بهدية خفيفة أصحبها معي، علها تشد من أزره، وترفع من معنوياته، التي قد نال منها المرض وأنهكها التعب. خطوت أولى خطواتي داخل المستشفى الذي كان حديث البناء، جديد العمل. "كم أكره المستشفيات!" كان هذا هو أول ما جال بخاطري. أخذت بضعة أنفاس، ممتلئة برائحة التعقيم التي تكاد تزكم الأنوف، قائلة في نفسي "دقائق معدودة ونخرج من هنا حيث نستنشق عبق الحياة من جديد". وصلنا إلى الغرفة المنشودة، ثم طرقنا الباب، واستقبلتنا زوجته. كانت امرأة قمحية البشرة، كل تجعيدة في وجهها تسطر قصة كفاح عاشته بجانب زوجها. صافحتها قائلة: "حمداً لله على سلامة أبو أحمد". قبلتني قائلة: "سلّمك الله من كل مكروه، حبيبتي". لمحت في عينيها دمعة لم أدرِ أفرحٌ هذا أم حزن، لكنها تلاشت بسرعة قبل أن تتجمع. كان معها في الغرفة زوجة ابنها البكر وحفيدتها منه. صافحتها ثم توجهت لأبو أحمد قائلة: "الحمد لله على سلامتك يا حاج. قدّر ولطف!". كان أبو أحمد أبيض البشرة، ضخم الجثة، في الستينات أو السبعينات من العمر وكان وجهه متوردا من التعب والإجهاد، إلّا أن ذلك لم يمنعه من التبسم قائلا: "الله يسلمك يا بنتي. لم يكن له لزوم هذا التعب". تذكرت هنا أنني ما زلت أحمل الهدية في يدي فوضعتها جانبا برفق قائلة: "هذا شيء بسيط أقل من مقامكم". كانت مريم ابنة ابنه، أو "مريوم" كما كان يناديها جدّاها وأمها جميلة بحق. بشرتها بيضاء، وخداها متوردان وشعرها الأشقر المموج القصير ينسدل على رأسها كشلال من ذهب. لم تكن تلك المرّة الأولى التي تراني فيها فاندفعت نحوي واحتضنتني قائلة: "جدو واوا". تأملت ملامحها الطفولية البريئة، وقارنتها بملامح جدتها. تساءلت في نفسي، هل كانت أم أحمد تشبه "مريوم" في صغرها. لم أدرِ لماذا راودني هذا السؤال، ولكنه كان مسيطرا على تفكيري، وبينما أنا غارقة في تأملاتي، أفقت على ضجة من غرفة مجاورة أدركت بعدها أن صاحبة الغرفة أمٌ قد حظيت للتو بأول أبنائها. بعد وقت ليس بقليل، تجاذبنا خلاله أطراف الحديث، استأذنت الحضور بالانصراف متمنية لهم ليلة سعيدة ولأبو أحمد سرعة الشفاء. لم أنسى تقبيل "مريوم" وأمها وأن أحتضن أم أحمد. "ليت كل الناس أصحاء" هذا ما جال بخاطري وأنا أغادر المكان. كان أنفي قد ألف راحة التعقيم فلم أعد أستغربها إلا أن أول أنفاسي خارج باب المستشفى ذكرتني بالفرق بين هواء الصحة وهواء السقم. هنا في المستشفى حيث تجتمع تناقضات هذه الحياة. حياة نبدأها بصرخة، وننهيها بصرخة، وما بين الصرختين حياة مليئة بالأفراح والأتراح، تلهينا مشاغلنا اليومية عن تذكر حقيقة هذه الحياة، وكيف أنها إلى زوال. تنسينا مشاكلنا أن نتذكر نعم الخالق علينا، وأن يوما واحدا نعيشه في كامل صحتنا، يعادل الكثير والكثير مهما كانت حياتنا مليئة بالمشكلات. وصدق القائل: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى" وأحب أن أضيف عليه: "أو من زار المستشفيات".
No comments:
Post a Comment