Tuesday, February 11, 2014

سيجارة فرنسيّة



الصورة عن الشبكة

جلسَت على كرسيّها مضمومة الرجليْن، وتنّورتها السوداء تكاد لا تغطّي منهما شيئًا. في يدها سيجارة تلفظُ آخر أنفاسها. نفخَتْ الدخان الأبيض فوق رأس صديقتها، علّها تزفرُ همومها مع السحب المتصاعدة التي سرعان ما تتبدّد، كما أحلامها. تمايلتْ وصديقتَها بين الحين والآخر مع نغمات الموسيقى الهادئة تارةً والمجنونة تارةً أخرى التي تلعب في أرجاء الحانة، وحذاؤها الأسود يتأرجح ليصطدم بكعب حذاء صديقتها، فتضحكان عاليًا. 
استأذنتها صديقتها بعد حين لانشغالها مع حبيبها ورحلَتْ، تاركةً إيّاها فريسة عيون الساهرين ليلةَ الخميس في شتاء "البار". 

فرَدَتْ شعرَها الأحمر الأشعث على كتفيْها العارييْن، ثمّ أومأَتْ بيمناها لساقي الحانة ليملأ كأسها مجدّدًا، فلبّى طلبها مبتسمًا: "أمرِك ستّنا!". ثمّ سارَعَتْ لتُخرجَ سيجارة أخرى من حقيبتها الصغيرة، فبادرها رجل يجلسُ بجانبها ليشعل سيجارتها بولّاعته الفضّيّة الأنيقة: توهّجت السيجارة وتمنّتْ هي أن لا يتوجّب عليها "ردّ المعروف" لنديمها، أو ربّما أكثر من المعروف بقليل.. شكرَتْه على لطفه وتابعَتْ حرقَ رئتيْها بسلام.

كان يرتشف "الويسكي" على مهل، ويطالع هاتفه الذكيّ من تحت نظّارتيه، ثمّ يتفقّد ساعة يده التي تتماشى مع خاتم بنصره، ويعود إلى كأسه. بدا لها كأنّه رجل أعمال أربعينيّ، وقد صدق تخمينها، بعدما توجّه لها بحديث، بلكنته الأجنبيّة الحادّة، وقال: "ما اسمكِ؟".
- مش مهمّ.
- تشرّفنا. أنا ميلاد.
- آه! أنت عربيّ! لم أخطئ الظنّ! ملامحك عربيّة بلا شكّ. لكنّ لكنتك الحادّة دعتني للشكّ.
- نعم، فقد قضيتُ حوالي ٢٠ عامًا في كندا، وأحمل جواز سفر كنديّ.
- جميل.. همم... دعني أحزر جنسيّتك إذًا. لست خليجيًّا بطبيعة الحال، هل أنت من الشام أو من المغرب؟
- المغرب.
- جزائريّ؟
- أجل!
- لم ألتقِ رجلًا جزائريًّا من قبل.
- حقًّا؟ نحن الجزائريّين متفرّقون في بقاع الأرض، وخاصّة بين أوروبا وأميركا.
- مشكلتي أنّي لا أعرف الكثير عن دولة الجزائر وشعبها، وألوم إعلامنا على إهمال المغرب العربيّ في تغطيته إن كان فنّيًّا أو ثقافيًّا أو حتّى سياسيًّا.
- فعلًا..

وهكذا انطلق الحديث، فأخبرها أنّه مهندس مدنيّ استقرّ في دبي منذ بضعة سنوات ويعمل بين الخليج والعراق وبيروت. أخبرها عن حبّه للسفر، وعن حبّه للأدب العربيّ، وعن ملله من السياسة ورجالها المشبوهين. وأخبرته عن أيّامها التي لا تنام، وعن تعبها في عملها الجديد، وعن اشتياقها لأختها في مثل تلك الأمسية. ضحكا كثيرًا، وطالت دردشتهما. تحدّثا عن العالم وعن الناس حولَهما، رغم أنّهما نسيا وجود مَن حولَهما.. وحدّثها عن عائلته الصغيرة وابنته أمينة وإبنه عمر الذي يتخرّج من الثانويّة نهاية العام. قاطعَتْه، "إذن عمركَ ٥٠؟". فردّ: "بالضبط!". 

بالرغم من أنّها قدّرَتْ سنّه منذ البداية، لكنّها -لسبب تجهله- صُعقَت عند وعيها أنّ ميلاد -الذي يكبرها بثلاثة عقود- بعمر والدها الذي لم تسنح لها الفرصة يومًا أن تجالسه، لا في بار، ولا في دار عبادة. ربّما سقطت المعلومة سهوًا في أسفل قدحها الذي لم يملّ من تدليل الساقي له. استدركت الموقف وقالت له ممازحة: "أنتَ كأبي!". "وأنتِ من جيل إبنيّ!"، ردّ قائلًا. 

- دعيني أشتري لك مشروبًا آخر.
- لكنّي شربتُ الكثير اليوم.
- لا بأس، ليكُن الأخير.
- حسنًا. 

شربَتْ آخر قدح وأفرغتْ علبة السجائر تمامًا، بالرغم أنّها نادرًا ما تدخّن. انشغلت بإطفاء الأخيرة، فوجدته يدفع الفاتورة. تناول معطفه من على المنضدة، وترك لها علبة سجائره الفرنسيّة وقد بقي فيها ٤ لفائف، ثمّ قبّل وجنتيها بشفتين باردتين، وقال "طابت ليلتُكِ"، ورحل. تبعتهُ بعينيْها المتعبتيْن وشاهدته يهمّ السير إلى المخرج، لكنّها لم تسمع وقع خطواته، ليس لصخب الموسيقى في الحانة، بل لأنّ والدها قد رحل للتوّ. احتفظت بالعلبة، مسحت دموعها، حيّت الساقي، وغادرَت هي أيضًا. 

كان الرصيف خارجًا خاليًا من الوجوه. 


رنا داود
الصورة عن الشبكة

2 comments:

  1. وصف دقيق جعلنا نعيش حلم البار!...رائعة كالعادة

    ReplyDelete
  2. رائعة بكل المقاييس ...أحببت الوصف كثيرا .... هل من تكملة؟

    ReplyDelete